تقارير

«ن. تايمز»: سعود القحطاني.. التابع الأمين لمحمد بن سلمان من الصعود حتى السقوط

«يستخدم القادة المستبدون في جميع أنحاء العالم، مثل ولي العهد السعودي، على نحو متزايد، أدوات القرصنة وبرامج التجسس؛ لترويع رعاياهم، وتوطيد سلطتهم».

هذه الظاهرة كانت حاضرة في كتاب الصحافي بن هوبارد، الذي يحمل عنوان «صعود إم بي إس إلى السلطة»، ومنه اقتبس الكاتب مقالًا مطولًا نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» عن سعود القحطاني، الرجل الذي يُوصف بالتابع الأمين والنصير المخلص، وسلاح ولي العهد السعودي السرِّي، الذي تفانى في خدمة سيده، وتجاوز الحدود في أداء المهام القذرة، وغير القانونية.

يذكر بن هوبارد، مدير مكتب صحيفة التايمز في بيروت، الذي أمضى أكثر من عقد في العالم العربي، أنه في عام 2012، تواصل أحد قراصنة أجهزة الكمبيوتر والشاعر الهاوي، المهتم بعملة البيتكوين وبوتات الإنترنت (برامج تنجز مهامًا تلقائية على الإنترنت) وألعاب الفيديو عبر الإنترنت، مع شركة (Hacking Team)، الإيطالية التي باعت برامج كمبيوتر سمحت للحكومات باختراق الهواتف المحمولة والأجهزة الأخرى.

وكشفت رسائل البريد الإلكتروني التي نشرها لاحقًا موقع التسريبات الشهير «ويكيليكس»، أن ذلك الشخص طرح على الشركة الإيطالية السؤال التالي: «هل يمكن للشركة إرسال خبراء يتمتعون بمعرفة تقنية عالية إلى المملكة العربية السعودية لعرض برامجها؟»، واعدًا بتغطية تكاليف زيارتهم «من الألف إلى الياء»، وأن يتلقوا معاملة «كبار الشخصيات الذين يحلُّون ضيوفًا لدى الديوان الملكي».

سعود القحطاني.. سلاح الأمير السرِّي

كان اسم القرصان الإلكتروني، هو: سعود القحطاني، والذي كان آنذاك لاعبًا صغيرًا في البلاط الملكي للملك عبد الله. ولكن بعد وفاة الملك في عام 2015، تضخمت قوة السيد القحطاني في المملكة العربية السعودية على نحوٍ كبير. وقد فوَّضه راعيه الجديد، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لبناء ترسانة من الأسلحة الإلكترونية الجديدة لدعم صعود الزعيم الشاب.

خلال ذلك الوقت، نشر السيد القحطاني جيوشًا إلكترونية للتلاعب بمنصات التواصل الاجتماعي، وأشرف على حملة قرصنة امتدت لتشمل التجسس على جيف بيزوس، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، وطالت حتى كاتب المقال ومؤلف الكتاب، وهو مراسل لصحيفة نيويورك تايمز يغطي الأخبار المتعلقة بالسعودية.

كما دفع حملته القمعية، التي شنها ضد الأصوات المعارضة، لتنتقل من الواقع الافتراضي إلى العالم الحقيقي، الأمر الذي أدى إلى قتل الكاتب السعودي المنشق جمال خاشقجي وتقطيع أوصاله، في إسطنبول في شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2018؛ وهي جريمة صدمت العالم وحولت السيد القحطاني من سلاح الأمير محمد السري، إلى نقطة ضعفه المميتة، أو ما اصطلح على تسميته في الأساطير بـ«كعب أخِيل».

يرى الكاتب، الذي غطى الانقلابات، والحروب الأهلية، والاحتجاجات والجماعات الجهادية، في أكثر من اثنتي عشرة دولة، أن قصة صعود السيد القحطاني وسقوطه الحاد على نحوٍ غير متوقع هي بمثابة حالة تُدَّرس حول كيفية توجه القادة الاستبداديين في جميع أنحاء العالم نحو السوق الدولية المتنامية لبرامج التجسس التجارية؛ لترويع رعاياهم وإخضاعهم، وتعزيز سلطة القادة وقوتهم.

كما تلقي تلك القصة الضوء على الخلطة الخطيرة التي صنعها الأمير محمد، من الطموح الكاسح والحصانة الشديدة من العقاب. وفي وقت مبكر من صعوده، أدرك محمد بن سلمان فاعلية استخدام التقنيات المتطورة في خدمة الاستبداد العتيق، واختار السيد القحطاني- لولائه الذي لا يتزعزع أكثر منه لمهارته- لقيادة هذه العملية.

ازدهار سوق برامج التجسس التجارية

يقول الخبراء إن سوق برامج التجسس التجارية ازدهر خلال العقد الماضي. ونظرًا إلى أن كثيرًا من الناس أصبح يحمل الهواتف الذكية، ويعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار والتواصل مع الآخرين، ظهرت الشركات التي تتوعد باقتحام هذه الأجهزة واختراقها، مما أدى إلى قيام صناعة بمليارات الدولارات.

وأدت الطبيعة السرية لهذه الصناعة إلى صعوبة تحديد نطاقها، لكن المعلومات تسربت على مر السنين حول اللاعبين الرئيسيين، ومنتجاتهم، وعملائهم. وعثر المحتجون الذين شاركوا في المظاهرات التي اندلعت في القاهرة في عام 2011 على وثائق تشير إلى أن الحكومة المصرية كانت تفكر على الأقل في دفع ما يقرب من 319 ألف دولار مقابل شراء برامج تجسس قوية تسمى (FinFisher)، على الرغم من أن مُوَرِّد المنتج نفى فيما بعد أنه قدم ترخيصًا لاستخدام البرنامج في مصر.

وفي العام الماضي، استحوذت شركة نوفالبينا كابيتال على مجموعة «إن إس أو» الإسرائيلية في صفقة ذُكر أن قيمتها تبلغ حوالي 850 مليون دولار. أما شركة «فريق القرصنة» (Hacking Team)، الإيطالية التي راقت للقحطاني وتواصل معها، والتي تعرضت نفسها للاختراق في عام 2015، فتلقت دفعة نقدية من مستثمر سعودي غامض، ودُمجت فيما بعد في شركة (Memento Labs)، وهي لاعب جديد في مجال الاستخبارات.

برامج التجسس نعمة للحكام الاستبداديين

تقول الشركات إنها تسوّق منتجاتها للحكومات فقط بهدف محاربة الإرهاب والجريمة، وتطبق بروتوكولات صارمة لضمان الاستخدام الصحيح لمنتجاتها. لكن المنتقدين يجادلون بأن برامج التجسس التجارية أصبحت نعمة للحكام الاستبداديين، الذين يستخدمونها للتجسس على المواطنين، والصحافيين، والخصوم السياسيين، والمعارضين السلميين.

ولم يعد يتعين على السلطات نشر شرطة سرية لمراقبة شخصيات المعارضة، أو زرع أجهزة تنصت دقيقة في هواتفهم. إذ يرسلون الآن الروابط عبر رسالة نصية فتمكنهم من اختراق أجهزة هؤلاء الأشخاص، مما يسمح لهم بالاطلاع على جهات الاتصال، وقراءة الدردشات، والتنصت على المكالمات وقت إجرائها.

وترى الصحيفة أن انتشار تقنيات القرصنة والاختراق أدى إلى ارتفاع كبير في التقارير التي تتبع استخدامها في جميع أنحاء العالم، بدءًا من المكسيك، مرورًا بإثيوبيا، وصولًا إلى التبت في الصين، وأثبتت هذه التقنيات أنها تحظى بشعبية خاصة في الشرق الأوسط. حول ذلك، يقول بيل ماركزاك، وهو باحث كبير في (سيتيزن لاب) في كلية مونك للشؤون العالمية بجامعة تورنتو، بكندا، والذي يتتبع برامج التجسس التجارية: إن هناك أدلة على استخدام مثل هذه المنتجات من جانب مصر، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ودول أخرى معظمها غير معروف بتسامحه مع الآراء النقدية المعارضة. وأضاف ماركزاك أن عدم وجود لائحة (تنظيمية) خارجية، والمبالغ الضخمة التي تتقاضاها الشركات؛ تترك الباب مفتوحًا أمام سوء استخدام هذه التقنيات الحديثة على يد الدول القمعية.

مسيرة القحطاني مع تكنولوجيات القرصنة

يقدم مسار السيد القحطاني درسا عمليًّا لصعود تكنولوجيات القرصنة في دولة استبدادية، والتي هي أيضًا حليفة للولايات المتحدة الأمريكية. حصل السيد القحطاني على شهادة في القانون ودرجة الماجستير في العدالة الجنائية، قبل انضمامه إلى الديوان الملكي مراقبًا إعلاميًّا في عام 2008، في عهد الملك عبد الله.

وفي العام التالي، ظهر القحطاني في «منتديات هاك Hack Forums»، وهي ساحة على الإنترنت مخصصة للمخترقين (الهاكرز) الطموحين والمجرمين الإلكترونيين، وتعرض للاختراق على الفور تقريبًا. إذ اشترى برامج خبيثة من مستخدم آخر، وسرعان ما أدرك أنها أصابت جهاز الكمبيوتر الخاص به، وصُدم عندما أدرك أنه تعرض للاختراق على يد قرصان إلكتروني آخر. وكتب آنذاك: «أعتقد أنه شخص جيد للغاية، ويبدو أنه جدير بالثقة!!!».

وتعرض القحطاني للخداع ثلاث مرات أخرى على الأقل، على يد المخترقين الذين سعى- هو نفسه – للحصول على خدماتهم، واعترف ثلاث مرات بأنه نشر بعض التعليقات بينما كان مخمورًا، وفقًا لتقرير أصدرته مجموعة الأبحاث (Bellingcat) خاص ببصمته (للدخول) على الإنترنت. وكتب حينها: «أنا في حفلة، ثمل (مخمور)، والآن أنا سعيد حقًّا. وسأذهب لاحتساء مشروب التكيلا، والرقص. يا للمرح».

يرى الكاتب أنه على مدى السنوات الست التي قضاها القحطاني في المنتدى، كتب مئات المنشورات، وتبرع بأكثر من 10 آلاف دولار للموقع، بينما كان غالبًا يستفسر عن تقنيات المراقبة، ويقدم مبالغ مرتفعة نظير خدمات بسيطة، ويطلب المساعدة في أهداف محددة. وفي عام 2014، طرح هذا السؤال: «هل هناك أي جرذ (هاكر) بمقدوره أن يصيب جهاز كمبيوتر ماكنتوش؟»، في إشارة إلى فيروس حصان طروادة، الذي يمكن أن يتحكم عن بعد في الأجهزة المستهدفة.

وفاة الملك عبد الله تفتح الطريق أمام الاستبداد الإلكتروني

في شهر يناير (كانون الثاني) عام 2015، توفي الملك عبد الله. واعتلى الملك سلمان العرش، ومنح نجله محمد بن سلمان، البالغ من العمر 29 عامًا، سلطة هائلة استخدمها لاحقًا ليجعل من نفسه الحاكم الفعلي للمملكة.

كانت مهارات الاختراق (القرصنة) التي يتمتع بها السيد القحطاني محدودة، لكنها كانت كافية لينجو من حملة التطهير، التي أجراها البلاط الملكي عندما وصل الملك سلمان للحكم، وتولى الأمير محمد المسؤولية. ويقول المسؤولون الأمريكيون الذين تابعوا صعود السيد القحطاني، إنه أدرك في وقت مبكر أن ولي العهد يخشى من قيام مجموعة من المنافسين بمؤامرات ضده. فأقنع الأمير محمد بأن معرفته بالفنون الإلكترونية الشريرة؛ يمكن أن تساعد ولي العهد على الانتصار والتسيُّد.

أصبح السيد القحطاني مستشارًا للديوان الملكي برتبة وزير، وبما أن السعودية تفتقر إلى مواهب الاختراق (القرصنة) المحلية، فقد حصل على ميزانية ضخمة لشراء أفضل التقنيات المتوفرة في السوق المفتوحة.

وسرعان ما تواصل مرة أخرى مع شركة «هاكينج تيم» الإيطالية، وكانت هذه المرة من خلال عنوان البريد الإلكتروني الخاص به في الديوان الملكي، وطلب منهم «القائمة الكاملة للخدمات التي تقدمها شركتكم المحترمة»؛ حتى يتمكن الطرفان من مناقشة قيام «شراكة طويلة واستراتيجية» بينهما.

ويشير الكاتب إلى أنه من غير الواضح كيف تطورت هذه الشراكة بالضبط، ولكن خلال السنوات القليلة التالية تطورت المملكة العربية السعودية لتصبح بمثابة معمل للاستبداد الإلكتروني، واعتلى السيد القحطاني قمته بصفته عالمه الرئيسي (عرَّابه).

صعود الأمير يقلِّص هامش حرية التعبير

يذكر الكاتب أن المملكة لم تكن دولة ديمقراطية على الإطلاق، فهي ليست أكثر من نظام استبدادي يرتدي قفازًا من حرير؛ إذ يتظاهر المواطنون بالسعادة والغنى والرضا علنًا، ولكنهم في الغالب يقولون ما يشاؤون سرًّا. ولكن مع صعود الأمير محمد بن سلمان، تقلص الهامش المحدود لحرية التعبير. ونما السيد القحطاني ليصبح القيصر الإعلامي للأمير، وأقوى حامٍ له.

احتفل السيد القحطاني، الذي يمتلك حسابًا على تويتر يضم أكثر من مليون متابع، بكل خطوة قام بها رئيسه، ونظم حملات للهجوم على الأعداء؛ المتمثلين في: المنظمات الإخبارية الأجنبية، وإيران، وقطر، والسعوديين الذين لم يُبدوا تأييدًا كافيًا لدعم ولي العهد.

وقاد القحطاني حملة مكارثية محمومة على الإنترنت، من خلال الإعلان عن وسم (هاشتاج) رسمي عنوانه: «القائمة السوداء» (#The_Black_List)، وطلب من متابعيه اقتراح أسماء له؛ حتى يجري تعقبهم ومعاقبتهم. وأوضح صراحة هوية الشخص الذي يستمد السلطة منه للقيام بهذه التصرفات. وكتب على تويتر: «أنا موظف، ومنفذ مخلص لأوامر سيدي الملك وسمو ولي العهد».

وبمرور الوقت، وصل القحطاني إلى ملاحقة الناس في العالم الحقيقي أيضًا على نحو متزايد. وفي عام 2017، انتقد الصحافي السعودي، تركي الروقي على موقع تويتر، اعتقال رجل اشتكى من تأخر القطار. فأجبر السيد القحطاني تركي الروقي على الاستقالة من الموقع الإخباري الإلكتروني الذي كان يديره، وضغط عليه للتغريد ضد رجل دين محتجز، لكن السيد الروقي رفض.

وكتب السيد الروقي فيما بعد عن الحادثة قائلًا: «هل أتحدث عن مستشار ووزير في أعلى مؤسسة في الدولة، أم عن مراهق متخصص في التشهير والاختراق (القرصنة)؟». ولكن مثلما فشل السيد القحطاني في تغطية محاولاته في أيامه الأولى في منتديات هاك، كُشف لاحقًا عن عمليات استغلال تمت من خلال عملية تجسس إلكترونية أجراها.

ورصد الباحثون في مجال التكنولوجيا خمس محاولات اختراق للهواتف مرتبطة بالمملكة العربية السعودية في شهري مايو (أيار) ويونيو (حزيران) عام 2018، ومعظمها كان ناجحًا، ويشتبهون في وقوع المزيد من مثل هذه المحاولات. يقول السيد بيزوس إن هاتفه تعرض للاختراق أيضًا، بعد أن تلقى مقطع فيديو مشفر عبر برنامج «واتساب» من الأمير محمد. لكن سقوط السيد القحطاني لم يأت من تجسسه الإلكتروني، بل من علاقته بقتل السيد خاشقجي. إذ وقعت عقوبات عليه و16 سعوديًّا آخرين، ووصفته وزارة الخزانة الأمريكية بأنه «جزء من تخطيط وتنفيذ العملية»، ومنعته وزارة الخارجية الأمريكية هو وعائلته من دخول الولايات المتحدة.

ومع ذلك، لم يدفع القحطاني أي ثمن يُذكر داخل السعودية، بخلاف تجريده من ألقاب وظيفته الرسمية. وعندما أعلن عن أول حكم في محاكمة المشتبه بهم في مقتل السيد خاشقجي، في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قال مكتب المدعي العام إن السيد القحطاني لم يحاكم بسبب نقص الأدلة.

وبينما ظل السيد القحطاني في الظل (بعيدًا عن الأضواء) منذ عملية القتل، يعتقد مسؤولون أمريكيون، وعديد من السعوديين، أنه ما زال يقود الجيوش الإلكترونية من مكان مجهول، ويشرف على عمليات التجسس الإلكترونية في المملكة.

 

المصدر – ساسة بوست

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى